sykakerk.nl


الإنسان… سرّ بين التراب والسماء


منذ البدايات، لم يكفّ الإنسان عن سؤال واحد
من أنا؟
سؤال بسيط في كلماته، لكنه عميق بقدر الوجود نفسه.
ننظر إلى الأرض فنرى ضعفنا، ونرفع عيوننا إلى السماء فنلمح في داخلنا شيئاً لا يفنى.
نحن بشر، نعم، لكن في أعماقنا إشراقة من الله نفسه، نَفَسُه يسكن فينا منذ لحظة الخلق: “فَخَلَقَ اللهُ آدمَ على صُورَتِه على صُورَةِ اللهِ خَلَقَه ذَكَراً وأُنْثى خَلَقَهم” (تكوين 1. 27). “ونَفَخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة، فصارَ الإِنسانُ نَفْساً حَيَّة” (تكوين 2. 7).
بهذه الكلمات، يعلن الكتاب المقدس أن الإنسان ليس صدفة ولا رقماً في الكون، بل مشروع حبّ إلهي.
كل واحد منا يحمل في داخله ملامح الله: في قدرته على المحبة، في حريته، في رغبته في الحق والجمال والخير.
«الإنسان خُلق على صورة الله كمخلوق قادر على معرفة خالقه ومحبته، وقد دُعي إلى أن يكون شريكاً في الحياة الإلهية» (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، رقم 356).
ولهذا، حين يبحث الإنسان عن الله، فهو في الحقيقة يبحث عن ذاته أيضاً، لأن الله مطبوع في كيانه.
بين العقل والقلب
منذ سقراط وأفلاطون وحتى اليوم، حاول الفلاسفة أن يعرّفوا الإنسان بالعقل أو الإرادة أو الحرية.
لكن يبقى شيء لا يمكن أن يفسّره المنطق وحده: عَطَشُنا إلى المعنى، ذلك الحنين الغريب الذي يجعلنا نبحث عن ما هو أبعد من المادة والزمن.
إنه صوت الله في داخلنا، ينادينا أن نعود إلى الأصل، إلى الحب الأول: “أَحبِب الرَّبَّ إِلٰهَكَ بِكُلِّ قَلبِكَ وكُلِّ نَفْسِكَ وكُلِّ ذِهنِكَ” (متى 22. 37).
العقل يضيء الطريق، نعم، لكن القلب هو الذي يمشي فيها.
فالمعرفة من دون محبة تتحوّل إلى جفاف، والإيمان من دون فكر يصير انفعالاً هشّاً.
«العقل والإيمان لا يتعارضان، لأن الله هو مصدر الاثنين» (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، رقم 159).
الله يدعونا أن نعيش هذا التكامل: أن نفكر بعقولنا، ونحب بقلوبنا، ونخدم بأعمالنا.
جمال الإنسان في ضعفه
كثيراً ما ننظر إلى ضعفنا كحدٍّ يمنعنا من الكمال، لكن في منطق الله، الضعف ليس عيباً بل مكان اللقاء.
حين ندرك هشاشتنا، نفتح باب القلب لكي يدخل الله: “على أَنَّ هٰذا الكَنْزَ نَحمِلُه في آنِيَةٍ مِن خَزَف لِتَكونَ تِلكَ القُدرَةُ الفائِقَةُ للهِ لا مِن عِندِنا.” (2 كورنثوس 4. 7). “حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف” (2 كورنثوس 12. 9).
في المسيح، صار الله إنساناً لا ليُبعد ضعفنا، بل ليقدّسه.
الإنسان لم يعُد مجرد مخلوق محدود، بل أصبح هيكلاً يسكنه الله، ومساحةً تُعلن مجده.
«الابنُ الإلهي تجسّد ليفدينا ويقدّس ضعفنا البشري، فصار في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة» (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، رقم 457).
إنسان بين الأرض والسماء
الإنسان ليس مخلوقاً للسماء وحدها ولا للأرض وحدها، بل كائن يعيش بينهما، يجمع في ذاته التراب والنفَس، الجسد والروح: “حَتَّى تَعودَ إِلى الأَرض، فمِنها أُخِذتَ لأِنَّكَ تُرابٌ وإِلى التُّرابِ تعود” (تكوين 3. 19). “أَمَّا نَحنُ فمَوطِنُنا في السَّمَوات ومِنها نَنْتَظِرُ مَجيءَ المُخلِّصِ الرَّبِّ يسوعَ المسيحِ” (فيلبي 3. 20).
ولهذا، فكل فعل، كل كلمة، كل نظرة حب أو كره، تُعيد تشكيل صورة الله فينا أو تشوّهها.
نحن نحمل مسؤولية أن نعكس مجد الخالق في تعاملنا، في احترامنا للآخر، في صدقنا وأمانتنا.
«الإنسان وحدة من جسد وروح، خلقه الله ليحيا حياة جسدية وروحية معاً» (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، رقم 362–364).
فحين نحب، نصبح مرآةً لله. وحين نغفر، نشارك في عمل الخلاص.
الإنسان سرّ لا يُعرّف بل يُكتشف
لا أحد يستطيع أن يعرّف الإنسان تعريفاً نهائياً، لأن الإنسان أكبر من التعريف، إنه سرّ في قلب الله.
كل واحد منّا يحمل وجهاً خاصاً لله لا يتكرّر: “يا رَبِّ قد سَبَرْتَني فَعَرَفْتَني، عَرَفْتَ جُلوسي وقِيَامي. فَطِنتَ مِن بَعيدٍ لِأَفْكاري” (مزمور 139. 1–2). “عَجيبةٌ أَعْمالُكَ. نَفْسي أَنْتَ تَعرِفُها حَقَّ المَعرِفَة” (مزمور 139. 14).
«الإنسان هو الكائن الوحيد الذي أراده الله لذاته، وهو لا يجد ذاته إلا بالعطاء الصادق لذاته» (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، رقم 1703–1704).
ولهذا، الحياة ليست سباقاً لتكون مثل غيرك، بل رحلة لتكتشف صورة الله فيك أنت.
الخاتمة
الإنسان هو الطريق الذي يسير فيه الله نحو العالم، والطريق الذي يعود به العالم إلى الله.
نحن التراب الذي نفخ الله فيه نَفَسه، لنصبح صوته وحنانه ويده الممدودة على الأرض: “أَنتُم نورُ العالَم… هٰكذا فَلْيُضِئْ نُورُكُم لِلنَّاس، لِيَرَوْا أَعمالَكُمُ الصَّالِحَة، فيُمَجِّدوا أَباكُمُ الَّذي في السَّمَوات.” (متى 5. 14–16). “كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذٰلك لِواحِدٍ مِن إِخوَتي هٰؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه” (متى 25. 40).
«بالمسيح، يصير الإنسان طريق الكنيسة، لأن سرّ الإنسان لا يُفهم إلا في سرّ الكلمة المتجسد» (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، رقم 1701).
في كل مرة نحبّ فيها، نخلق سلاماً أو نزرع أملاً، ونُعيد للعالم بريق وجه الله. فالإنسان هو الحلم الإلهي الذي يواصل الله كتابته عبر التاريخ، وكل واحد منا جزء من هذا الحلم الرائع.


الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 25-10-2025
www.sykakerk.nl