المقدمة
الأخلاق هي الركيزة الأساسية التي يقوم عليها بناء الإنسان والمجتمع، فهي ليست مجرد قواعد نظرية أو شعارات تُرفع، بل أسلوب حياة يعكس عمق القيم التي يحملها الفرد في داخله. والأخلاق الحقيقية لا تُقاس في الأوقات المريحة، بل تظهر في المواقف الصعبة، حين يجد الإنسان نفسه أمام خيارين: إما أن يتمسك بمبادئه، أو أن ينجرف وراء السلوك السلبي للآخرين. وهنا تبرز أهمية القول: “إذا فشلت في رفع أحد إلى مستوى أخلاقك فلا تدعه ينجح في إنزالك لمستوى أخلاقه”، الذي يلخص فلسفة الثبات على الفضيلة مهما كانت الضغوطات. وهو ما أوصى به الكتاب المقدس: “لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ ٱغلِبِ الشَّرَّ بِالخير” (رومية 12. 21).
1.قوة الأخلاق في مواجهة الإساءة
الحياة اليومية مليئة بالمواقف التي تختبر قوة الإنسان الأخلاقية.
ففي العمل قد نواجه ظلماً أو استغلالاً، وفي المدرسة قد نصطدم بسخرية أو استهزاء (التنمر)، وفي المجتمع قد نتعرض لاستفزازات مختلفة.
وهنا يطرح السؤال:
هل نردّ الإساءة بمثلها؟
أم نرتقي فوقها ونعكس ما نحمله من قيم مسيحية وإنسانية؟
2.الأخلاق ليست ضعفاً
التمسك بالأخلاق لا يعني الضعف، بل هو قمّة القوة.
يسوع نفسه علّمنا: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ” (متى 5. 44).
فالمسيحي الحقيقي لا يُعرَف فقط بكلامه، بل بقدرته على أن يواجه الشر بروح السلام، وأن يقابل الكراهية بالمحبّة، وأن ينتصر على الغضب بالصبر.
3.مواقف من حياة يسوع
-على الصليب: عندما كان الجنود يسخرون منه ويعذبونه، لم يردّ الإساءة بكلمة جارحة، بل رفع صلاة من أجلهم قائلاً: “يا أَبَتِ ٱغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون” (لوقا 23. 34).
هنا بلغ يسوع قمّة الأخلاق، حيث اختار المغفرة بدل الانتقام.
-مع المرأة الزانية (يوحنا 8): حين أراد الجميع رجمها بحسب الشريعة، لم ينجرّ يسوع إلى دائرة القسوة، بل واجههم بكلمة مليئة بالحكمة والرحمة: “مَن كانَ مِنكُم بِلا خَطيئة، فلْيَكُنْ أَوَّلَ مَن يَرميها بِحَجَر!” (يوحنا 8. 7).
لم يبرّر الخطيئة، لكنه في الوقت ذاته لم يسمح للشر أن يسحب قلبه إلى القسوة.
4.الثبات على المبادئ
الإنسان الذي يحافظ على هدوئه أمام الاستفزاز، ويختار الصدق أمام الكذب، ويقدّم الغفران بدل الانتقام، يمتلك سيطرة على ذاته أكبر بكثير ممن يستسلم لردود الأفعال الانفعالية.
كما يقول الرسول بولس: “أَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فهو المَحَبَّةُ والفَرَحُ والسَّلامُ والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاقِ والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف.” (غلاطية 5. 22-23).
إن محاولة رفع الآخرين إلى مستوى الأخلاق الرفيعة قد تنجح أحياناً، لكنها ليست مضمونة دائماً. فهناك من يرفض التغيير ويصرّ على السلوك السلبي، لكن الخطر الحقيقي لا يكمن في فشلنا في تغييرهم، بل في نجاحهم في تغييرنا نحن.
لذلك يصبح الثبات على المبادئ ضرورة لحماية النفس من الانحدار.
الخاتمة
الأخلاق ليست خياراً ثانوياً، بل هي الأساس الذي يمنح الإنسان قيمته الحقيقية، ويكشف عن عمق إيمانه. والفشل في تغيير الآخرين لا يُعد هزيمة، أما الهزيمة الكبرى فهي حين نتنازل عن مبادئنا ونسمح لهم أن يسحبونا إلى دروبهم.
لذلك، لنجعل من القيم التي نادى بها الإنجيل حصناً نحتمي به، ومن وصايا المسيح سراجاً نهتدي به، فنعيش قول الرسول بولس: “ٱختَبِروا كُلَّ شَيءٍ وتَمسَّكوا بِالحَسَن” (1 تسالونيكي 5. 21). وهكذا، من يحافظ على نقاء قلبه وسلامة سلوكه يظل رابحاً في النهاية، لأنه لم يسمح للشر أن يغلبه، بل انتصر عليه بالخير، وأثبت أن الفضيلة ليست مجرد كلمة، بل حياة تُعاش وشهادة تُرى.
الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 20-09-2025