في عالم ٍ يمتلئ بالأصوات والردود السريعة، يصبح الصمت حالة تُساء قراءتها في كثير من الأحيان. فكثيرون يظنونه ضعفاً أو تجاهلاً أو بروداً، لكن الحقيقة أعمق بكثير. ففي ضوء الحكمة الكتابية، نكتشف أن الصمت يمتلك مكانته الخاصة: “لِكُلِّ أَمرٍ أَوان… لِلصَّمْتِ وَقتٌ ولِلنُّطقِ وَقْت” (الجامعة 3. 1 و7).
وتؤكّد الأم تريزا معنى الصمت الروحي حين تقول: «أبدأ صلاتي دائماً بصمت، لأنّه في صمت القلب يتكلم الله.»
ولهذا يصبح الصمت ليس انسحاباً، بل لقاء. هو لحظة نعيش فيها عمق الحضور الإلهي، لأنّ الله يتكلّم في الصمت، ومن هذا الصمت نتعلّم حكمة الكلام.
اولاً: الصمت حين يعجز الكلام
هناك لحظات في الحياة لا تكفي فيها الكلمات، ليس لأننا بلا رأي، بل لأن الكلام يصبح عاجزاً عن احتواء المشاعر. فعندما يمرّ أحدهم بألم ٍ شديد، قد يكون حضورنا الصامت أعمق من أي عبارة. وهذه الحقيقة يعبّر عنها الكتاب بوضوح حين يخبرنا أن أصحاب أيوب: “وجَلَسوا معَه على الأَرضِ… ولم يُكَلِّمْه أَحَدٌ بِكَلِمَة، لِأَنَّهم رَأَوا أَنَّ كآبَتَه كانَت شَديدةً جِدّاً” (أيوب 2. 13)، والصمت هنا ليس هروباً، بل مشاركة صادقة في الألم. فهو نوع من الحضور الذي لا يفرض تفسيراً أو تبريراً، بل يقدّم مساحة للآخر ليعيش حزنه دون ضغط.
ثانياً: الصمت واحترام المساحة النفسية
أحياناً نصمت ليس لأننا نفتقر للكلمات، بل لأننا نحترم مشاعر الآخر ونعرف أن الكلام في تلك اللحظة قد يؤذي أكثر مما يصلح. فالصمت يتحوّل إلى “مساحة آمنة” نمنحها لمن نحب. هذا الموقف يتناغم مع روح المحبة التي يقول عنها بولس الرسول: “المَحبَّةُ تَصبِر… وتَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيء” (1 كورنثوس 13. 4 و7).
الصمت هنا فعل محبة ناضجة، وهو جزء من ذكاء الإنسان العاطفي وفهمه لاحتياجات الآخرين.
ثالثاً: الصمت لا يعني الغياب
من أكبر سوء الفهم في العلاقات هو اعتبار الصمت تجاهلاً. لكن الحقيقة أن الصمت قد يكون أحياناً لغة اهتمام عميقة. فهناك أشخاص، حين يصمتون، كأنهم يقولون: “أنا معك حتى دون أن أتكلم.”
هذه الروح تظهر في دعوة المزمور: “كُفُّوا وٱعلَموا أَنِّي أَنا الله” (مزمور 46. 11)،
حيث يصبح الصمت وسيلة لحضور داخلي أعمق، سواء مع الله أو مع من نحب.
والكتاب المقدس أيضاً يشير إلى أن ضبط اللسان حكمة: “حَتَّى الغَبِيُّ إِذا صَمَتَ يُحسَبُ حَكيماً” (الأمثال 17. 28)،
مما يدلّ على أنّ الصمت أحياناً أبلغ من الكلام.
رابعاً: متى يصبح الصمت خطيراً؟
رغم جمال الصمت، إلا أنه قد يحمل وجهاً آخر عندما يتحوّل إلى قطيعة أو تجاهل مقصود. الصمت هنا يفقد حكمته. الصمت الناضج لا ينسحب، بل ينتظر الوقت المناسب للكلام. فالكلمة في وقتها قد تكون خلاصاً للآخر، كما يقول الحكيم: “الكَلامُ المَنْطوقُ بِه في أَوانِه تُفَّاحٌ مِن ذَهَبٍ مع نُقوشٍ مِن فِضَّة.” (الأمثال 12. 18 ).
لذلك يحتاج الإنسان أن يميّز: متى يكون الصمت علاجاً، ومتى يتحوّل إلى جرح؟
خاتمة
الصمت لغة لا يتقنها إلا من عرف قيمة الحضور الإنساني. فالكلمات كثيرة، لكن ليست كل كلمة صادقة أو مناسبة. أما الصمت، ففيه صدق لا يزيَّف، وحكمة لا تُشترى. وهو علامة النضج والمحبة العميقة، والثقة بأننا لا نحتاج دائماً إلى شرح كل شيء.
ولذلك، فلنتعلم أن نوازن بين الصمت والكلام، وأن نكون ذاك الحضور الهادئ الذي يطمئن الآخر، حتى دون كلمة واحدة.
الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 29-11-2025