المقدمة
في زمن باتت فيه وسائل التواصل الاجتماعي جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية، يطرح سؤال مهم نفسه: ما هو موقع الكاهن في هذه الساحة الافتراضية؟ هل حضوره على هذه المنصات هو لخدمة الإنجيل أم لبروز شخصه؟ وما مصير أولئك الذين يختارون الصمت والابتعاد عن هذه الوسائل؟
هذا الموضوع يحمل وجوهاً متعددة، بين إيجابيات واضحة وسلبيات محتملة، ويستحق أن يُطرح بوعي ومسؤولية.
أولاً: الجوانب الإيجابية
انتشار كلمة الله
لقد تحولت وسائل التواصل الاجتماعي إلى منابر تصل إلى ملايين الناس في لحظة واحدة. فالكاهن الذي يستخدم هذه الوسائل يستطيع أن يدخل بيوت المؤمنين وقلب حياتهم اليومية، خصوصاً فئة الشباب الذين قد لا يرتادون الكنيسة باستمرار. إنها فرصة ذهبية لإعلان الإنجيل بلغة يفهمونها، وفي مكان يلتقون فيه.
الكنيسة الكاثوليكية أكدت على هذه النقطة منذ وثيقة المجمع الفاتيكاني (1963) “بين العجائب – مرسوم في وسائل الاتصال الاجتماعي”، التي اعتبرت وسائل الإعلام “هبات عجيبة من الله” يمكن أن تُستخدم في نشر البشارة والتربية المسيحية.
الحضور في قلب العالم
قال المسيح: “أنتم نور العالم” (متى 5. 14). واليوم لم تعد ساحة العالم فقط هي الشارع أو الكنيسة، بل أيضاً المنصات الرقمية. وجود الكاهن فيها علامة أن الكنيسة لا تنغلق على ذاتها، بل تخرج لتكون شاهدة وسط عالم كثيراً ما تسيطر عليه ثقافة الاستهلاك والمادية.
البابا بندكتس السادس عشر شدّد في رسالته لليوم العالمي للاتصالات (2010) على أن الكاهن مدعو ليعيش “حضوراً رعوياً رقمياً”، يجعل من الإنترنت مجالاً للشهادة للمسيح، لا مجرد مساحة شخصية.
التعليم والإرشاد
وسائل التواصل تسمح للكاهن أن يقدّم التعليم الكتابي واللاهوتي والإرشاد الروحي بطريقة مبسطة وسريعة. كما أنها تتيح للمؤمنين طرح أسئلتهم وتلقي الأجوبة بشكل مباشر، في زمن تنتشر فيه معلومات مغلوطة وأفكار مضللة قد تزعزع الإيمان.
البابا فرنسيس بدوره دعا إلى استخدام هذه الوسائل “كطرق جديدة للتبشير” (الرسالة في اليوم العالمي للاتصالات 2014)، شرط أن يكون التواصل مبنياً على الصدق، والرحمة، والإصغاء للآخر.
ثانياً: الجوانب السلبية
خطر التمركز على الذات
الإعجابات والمتابعات قد تصبح إغراءً خفياً. فبدل أن يكون الهدف نشر كلمة الله، قد ينقلب الأمر إلى السعي وراء الشهرة وبروز الشخصية. وحينها يبهت وجه المسيح ليظهر وجه الإنسان وحده.
ان ثيقة المجمع الفاتيكاني (1963)“بين العجائب – مرسوم في وسائل الاتصال الاجتماعي” نفسها حذّرت من أن وسائل الإعلام يمكن أن تتحول إلى أدوات للأنانية أو الاستغلال إذا لم تُستخدم بحكمة ومسؤولية.
تشويش رسالة الإنجيل
الظهور المتكرر قد يحمل مخاطر: فخطأ صغير، أو نقاش جدلي، أو مظهر غير لائق، قد يتحول إلى عثرة للمؤمنين ويُفقد الثقة برسالة الكنيسة. وهنا يتشوّه الإنجيل بدل أن يُعلن بصفاء.
الكرسي الرسولي أصدر أيضًا وثيقة (2002) بعنوان “الأخلاقيات في الإنترنت”، التي حذّرت من أن المحتوى غير اللائق أو المسيء من رجال الدين يمكن أن يكون مضاداً لرسالة الكنيسة ويُضعف الشهادة المسيحية.
المقارنة بين الكهنة
من الطبيعي أن يقارن المؤمنون بين كاهن نشط على المنصات وكاهن آخر يعمل في صمت. هذه المقارنة قد تولّد انقسامات وتساؤلات غير صحية من قبيل: “من يخدم أكثر؟ ومن هو الكاهن الأفضل؟” بينما كل كاهن يُدعى ليخدم بطريقته الخاصة بحسب موهبته.
البابا فرنسيس (2019) أشار في “المسيح حيّ”. إلى خطورة “الثقافة الرقمية القائمة على المقارنة والبحث عن الإعجابات”، لأنها قد تضعف الشهادة الحقيقية وتخلق فراغاً روحياً.
ثالثاً: الكهنة الذين يختارون الصمت
-الإيجابية: هؤلاء يجسّدون إنجيل الخفية: “وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك” (متى 6. 4). خدمتهم الصامتة تحمل بُعداً عميقاً من التواضع، وتترك أثراً ملموساً في حياة رعاياهم دون الحاجة إلى الأضواء.
-التساؤل: لكن يبقى السؤال قائماً: هل هذا الصمت ثمرة قناعة روحية عميقة، أم نتيجة خوف من النقد والزلل، أم ربما لضعف المعرفة بأدوات العصر؟
الكنيسة في توجيهاتها لا تُلزم الكاهن بالظهور الإعلامي، لكنها تدعوه أن يميز دعوته الشخصية: هل يُدعى لخدمة الإنجيل عبر الإعلام، أم لخدمة أكثر صمتاً وعمقاً داخل الرعية؟
رابعاً: الحلول- التوازن بين الحضور والرسالة
-ليس من المطلوب أن يظهر كل كاهن على وسائل التواصل، ولا أن يختفي جميعهم. المهم هو نقاء النية: هل الهدف هو المسيح أم الذات؟
-على الكنيسة أن ترافق الكهنة بإرشادات واضحة، تساعدهم على استخدام هذه الوسائل بحكمة ووقار، بحيث تبقى رسالتهم تبشيرية لا استعراضية.
-من الأفضل أن يكون ظهور الكاهن باسم كنيسته ورعيته، لا بصفة فردية فقط، لكي يُفهم حضوره على أنه امتداد لخدمة الكنيسة الجامعة، لا مجرد مبادرة شخصية.
-في النهاية، سواء أُعلنت الكلمة في العلن أو عُمِلت في الخفاء، الغاية واحدة: أن يرى العالم المسيح فينا، لا نحن أنفسنا.
كما قال البابا فرنسيس في اليوم العالمي للاتصالات (2021): “الاتصال الحقيقي لا يسعى إلى لفت الانتباه إلى الذات، بل إلى بناء لقاء مع الآخر ومع الله.”
الخاتمة
وسائل التواصل الاجتماعي هي سلاح ذو حدّين للكاهن: إمّا أن تكون جسراً مباركاً للتبشير بالإنجيل، أو فخاً للأنانية والبحث عن المجد الباطل.
وطوبى لذلك الكاهن الذي، في ظهوره أو في صمته، يجعل المسيح وحده في الواجهة، مردّداً مع يوحنا المعمدان: “هُوذا فَرَحي قد تَمَّ. لا بُدَّ له مِن أَن يَكبُر وَلا بُدَّ لي مِن أَن أَصغُر.” (يوحنا 3. 30)
الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 13-09-2025