sykakerk.nl


عيد جميع القديسين بين النور والظلمة: تأمل روحي في معنى القداسة وإشكالية الهالوين


في الأول من تشرين الثاني، تحتفل الكنيسة بعيد جميع القديسين، ذاك اليوم الذي فيه يتّحد الزمان بالأبدية، والأرض بالسماء. عيدٌ لا يخصّ أسماء محدّدة، بل يخصّ كل من أحبّوا الله حتى النهاية. وفي المقابل، يقف العالم في الليلة التي تسبقه أمام مشهدٍ غريب — «الهالوين» — حيث تُلبَس الأقنعة، وتُضاء وجوه الأشباح، وكأن الإنسان الحديث يحاول أن يلهو بظلّ الموت بعدما نسي معنى الحياة.
بين نور القداسة وظلمة الهالوين، يولد سؤالٌ روحيّ عميق: كيف نعيش دعوتنا إلى القداسة في عالم ٍ يحتفي بالمظاهر وينسى الجوهر؟
أولاً: القداسة كجواب على العطش الإنساني
القديس ليس إنساناً خارقاً، بل إنسانٌ أدرك أن قلبه لن يرتاح إلا بالله. لذلك، حين تحتفل الكنيسة بعيد جميع القديسين، فهي لا تمجّد أفراداً من الماضي، بل تعلن انتصار النعمة في الإنسان.
القديسون هم المرآة التي تعكس وجه المسيح، والكنيسة إذ تكرمهم، فهي تدعونا لننظر إلى ذواتنا بعين الدعوة: “كونوا قِدِّيسين، لِأَنِّي أَنا قُدُّوس” (1 بطرس 1. 16).
في زمن يُقاس فيه النجاح بالمظاهر، يأتي عيد جميع القديسين ليذكّرنا بأن العظمة الحقيقية هي أن نُحبّ. أن نحيا في العالم دون أن ننتمي إلى روحه، وأن نُضيء حيث يخفت النور.
ثانياً: من عيد القديسين إلى الهالوين… حين تغيّر المعنى
أصل كلمة Halloween هو All Hallows’ Eve أي «ليلة جميع القديسين»، وكانت قديماً زمن صلاة وصوم، استعداداً للعيد. لكن شيئاً فشيئاً، فقدت المناسبة معناها الروحي، وتحوّلت إلى احتفال بالغرابة والرعب.
تسلّل الخوف مكان الرجاء، والسخرية مكان الصلاة، وكأنّ الإنسان المعاصر أراد أن يتصالح مع فكرة الموت بطريقة تُخفيها بالضحك.
في نظر الكنيسة، لا تكمن الإشكالية في الفعل الاحتفالي ذاته، بل في انحراف جوهره عن معناه الأصلي. فحين يُنتزع من أصله كزمن تأمّل في القداسة، ويتحوّل إلى تمجيدٍ للخوف والشرّ، يفقد الإيمان عمقه، ويتحوّل الفرح المسيحي إلى قناعٍ بلا وجه.
الهالوين اليوم مرآةٌ لمجتمعٍ يلهو بظلال الموت ولا يعرف بعدُ من هو “نور العالم”.
ثالثاً: نظرة روحية في ضوء الإيمان
الكنيسة لا ترفض الفرح، بل ترفض كل فرحٍ يُبنى على الظلمة. دعوتها ليست للانسحاب من العالم، بل لتقديسه.
ولهذا تدعو المؤمنين إلى إعادة اكتشاف ليلة جميع القديسين كليلة صلاة وتوبة وفرح بالقداسة.
يمكن للأطفال أن يتنكّروا لا كأشباحٍ مرعبة، بل كقديسين وأبطال إيمان. يمكن للعائلة أن تُضيء شمعة بدل قناع، وتقرأ سيرة قديس بدل قصة رعب.
فالبديل المسيحي ليس “رفضاً”، بل “تقديساً”.
وفي قلب هذه الرؤية يقف المسيح الذي غلب الموت، ليعلّمنا أن الخوف لا مكان له في حياة المؤمن. كما يقول القديس يوحنا: “المحبّة الكاملة تطرح الخوف إلى خارج” (1 يوحنا 4. 18).
لهذا، لا ينبغي أن نخاف من الهالوين بحدّ ذاته، بل من أن نعيش بلا نور.
رابعاً: القداسة… الوجه الآخر للهالوين
في ثقافة تُقدّس المظاهر، القديس هو من يختار البساطة.
في عالم ٍ يهرب من الموت، القديس يواجهه برجاء القيامة.
وفي عالمٍ يتزيّن بالظلام، القديس هو ذاك الذي يُشعل شمعة الإيمان.
الهالوين، إن نظرنا إليه من منظار الإيمان، يمكن أن يصبح فرصة لنتذكّر انتصار الحياة على الموت.
فبدل الأقنعة، نرفع وجوهنا نحو النور.
وبدل الرعب، نحتفل بالمحبّة التي لا تموت.
إن القداسة ليست هروباً من الواقع، بل مواجهة له بروح الله.
خامساً: مسؤولية الوالدين في توعية الأبناء
لقد ابتعدت كثير من المجتمعات الحديثة، شيئاً فشيئاً، عن جوهر الإيمان المسيحي، فغلبت عليها المظاهر الجوفاء الخاوية من كل معنى للطهر والقداسة. تحوّل ما كان في الأصل زمنًا مقدّسًا للتأمل والصلاة إلى مناسبة للهو السطحي والفراغ الروحي.
من هنا، يتأكد الواجب الملقى على عاتق كل عائلة مسيحية بأن تلتفت إلى أبنائها وتغرس فيهم المفاهيم الإيمانية الصحيحة المرتبطة بهذه الاحتفالات.
فالتنشئة المسيحية لا تقتصر على التعليم النظري، بل هي شهادة يومية تُعاش داخل البيت، في الكلمة والمثال والموقف.
حتى لو اضطُرّ الأبناء إلى المشاركة في مظاهر الهالوين ضمن المدارس أو البيئة الاجتماعية، فليكن ذلك بمشاركة شكلية فقط، دون أن يفقدوا المعنى الحقيقي الكامن في قلوبهم.
فالمسيحي مدعوّ لأن يكون في العالم دون أن ينتمي إلى روح العالم.
ويمكن للأطفال أنفسهم، بروح البساطة والبراءة، أن يصبحوا رسلًا صغارًا للنور وسط أصدقائهم، ناشرين المفهوم الصحيح للهالوين كـ”ليلة جميع القديسين”، حيث ينتصر النور على الظلمة، والإيمان على الخوف.
بهذا، تتحول العائلة إلى كنيسة بيتية تزرع القداسة في القلوب الصغيرة، وتجعل من الأطفال بذوراً صالحة تُنير محيطهم وتشهد للحق الذي قد يجهله حتى المعلّمون أنفسهم.
سادساً: دعوة الكنيسة اليوم
الكنيسة، في حكمتها، لا تدعو إلى رفض العالم بل إلى تقديسه.
وفي زمن الهالوين، تدعونا لأن نحيا العيد الحقيقي: عيد جميع القديسين، يوم الرجاء، يوم التطلّع إلى السماء.
هي تدعونا أن نصلي من أجل الذين سبقونا، وأن نطلب شفاعة الذين صاروا أمام وجه الله.
هكذا يُصبح الأول من تشرين الثاني ليس مجرد ذكرى، بل تجديداً للعهد مع دعوتنا الأولى: أن نكون قديسين في العالم لا من العالم.
كما قال البابا فرنسيس:
«القديسون ليسوا أبطالاً خارقين، بل أشخاصاً عاديين سمحوا لله أن يعمل فيهم. إنهم إخوتنا الذين وصلوا إلى الهدف، ونحن مدعوون للسير على الطريق ذاته.»
(عظة عيد جميع القديسين، الفاتيكان، 2019)
الخاتمة
بين الهالوين وعيد جميع القديسين، يقف كلّ مسيحي أمام خيارٍ روحي: هل نريد أن نلهو بالظلام، أم نحتفل بالنور؟
القداسة ليست ترفاً، بل هي مصير كل من عرف المسيح.
الهالوين قد يكون مرآةً لمخاوفنا البشرية، لكن عيد القديسين يكشف رجاءنا الأبدي.
فلنحوّل ليل الخوف إلى سهرٍ من أجل النور، ولنستبدل صخب الأقنعة بصمت الصلاة، ولنرفع وجوهنا بدل أن نُخفيها، لأن وجه الإنسان المؤمن هو المرآة التي يريد الله أن ينعكس فيها نوره.


الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 01-11-2025
www.sykakerk.nl