sykakerk.nl


الله والإنسان الخاطئ: بين الانتقام والتربية


مقدمة
في مجتمعاتنا كثيراً ما نسمع تعابير مثل: “الله انتقم من فلان” أو “موته كان عقاب من الله”. هذه الأفكار تخرج غالباً من ألم أو غضب بشري، لكنها تضع صورة مشوّهة عن الله في ذهن الإنسان. فهل الله فعلاً ينتقم بالمعنى الذي نفهمه نحن؟ أم أن الكتاب المقدس يقدّم رؤية مختلفة كلياً؟
صورة الله في الكتاب المقدس
الكتاب المقدس يقدّم الله كإله عادل وبار، لكنه أيضاً رحيم وطويل الأناة. في سفر إشعيا نقرأ: “لأَنَّ أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ وَلاَ طُرُقُكُمْ طُرُقِي” (إشعيا 55. 8).
أي أن الله لا يتعامل معنا بحسب منطق البشر. الإنسان حين يُجرَح أو يُظلم قد يلجأ إلى الانتقام، لكن الله لا يعرف الحقد أو الكراهية، بل كل ما يفعله يصدر عن محبة وعدل.
الانتقام عند الإنسان
الانتقام في ذهن الإنسان غالباً يرتبط بالغضب، الكراهية، وردّة الفعل. فالإنسان إذا ظُلِم أو جُرح يميل أن يردّ بالمثل. لكن الكتاب المقدس يرفض هذا المنطق، ويعلّم أن المؤمن لا ينبغي أن ينتقم لنفسه: “لاَ تَنْتَقِمُوا لأَنْفُسِكُمْ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، بَلْ أَعْطُوا مَكَاناً لِلْغَضَبِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ” (رومية 12. 19).
هنا بولس الرسول يضع خطاً فاصلاً: الانتقام ليس من حق الإنسان، لأنه غالباً يكون مشوهاً بالأنانية والانفعال.
معنى “انتقام الله” في النصوص المقدسة
بعض نصوص العهد القديم تصف الله بأنه “الرَّبُّ إِلٰهٌ غَيورٌ ومُنتَقِم” (ناحوم 1. 2). وكذلك نقرأ: “لِيَ نَقْمَةٌ وَجَزَاءٌ فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَزِلُّ فِيهِ أَقْدَامُهُمْ” (تثنية 32. 35).
لكن المقصود بـ”انتقام الله” هو إعلان عدله ضد الشر والظلم، وليس فعلاً ناتجاً عن حقد أو رغبة في الإيذاء. الله لا ينتقم كالبشر، بل يُظهر قداسته برفض الخطيئة ومحاسبة الظالمين.
الله يؤدّب من يحب
الرسالة إلى العبرانيين توضّح البعد التربوي لعمل الله: “فمَن أَحَبَّه الرَّبُّ أَدَّبَه، وهو يَجلِدُ كُلَّ ٱبنٍ يَرتَضيه” (عبرانيين 12. 6).
الله يسمح أحياناً بضيقات وتجارب، لكن ليس بقصد الإهلاك، بل كتربية محبة. مثل الأب الذي يوجّه ابنه ليعود إلى الطريق الصحيح، هكذا الله يريد أن يفتح أعيننا لنميز الخير من الشر.
المسيح يغيّر المفهوم
في العهد الجديد، يسوع يرفع الإنسان إلى مستوى جديد تماماً، إذ يقول: “أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ” (متى 5. 44).
بهذا التعليم، المسيح يحرّر المؤمن من منطق الانتقام البشري، ويدعوه إلى السير على خطى الله الذي “يشرق شمسه على الأشرار والصالحين” (متى 5. 45).
العدالة في يد الله وحده
بولس الرسول يذكّرنا قائلاً: “لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ” (رومية 12. 19).
أي أن الله وحده صاحب الحق في الحكم. وفي سفر الرؤيا نسمع صرخة الشهداء: “حَتَّامَ، يا أَيُّها السَّيِّدُ القُدُّوسُ الحَقّ، تُؤَخِّرُ الإِنْصافَ والٱنتِقامَ لِدِمائِنا مِن أَهلِ الأَرض!” (رؤيا 6. 10).
لكن هذه “النقمة” ليست كراهية، بل إعلان العدالة الإلهية التي تكمل عند مجيء المسيح الثاني.
الخطر الحقيقي ليس “انتقام الله”
الخطر ليس في أن ننسب كل مصيبة أو موت إلى “انتقام إلهي”، بل في أن نغلق قلوبنا عن نعمته. الخطيئة هي التي تُبعد الإنسان عن الله، بينما الله يظل فاتحاً ذراعيه مثل الأب في مثل الابن الضال، ينتظر عودة أولاده إلى بيته.
خاتمة
من خلال الكتاب المقدس نفهم أن الله ليس إله انتقام بالمعنى البشري. هو إله عادل، نعم، لكنه في الوقت نفسه أب رحيم. قد يسمح بالتأديب ليعيدنا إلى الطريق، لكنه لا يتلذذ بعقاب أحد. لذلك، كل مؤمن مدعو أن يقرأ أحداث حياته لا كـ“انتقام”، بل كنداء للتوبة وفرصة للنمو في الإيمان
-الانتقام البشري: فعل غضب وضعف يرفضه الكتاب المقدس
-“انتقام الله”: يعني عدالته ضد الشر، وليس حقداً شخصياً
-التأديب الإلهي: وسيلة تربوية يقود بها الله أولاده نحو التوبة والخلاص
-دعوة المسيح: التحرر من عقلية الانتقام، والعيش بروح المحبة والغفران
الله لا يَنْتَقِم، بل يُخَلِّص. الله لا يُحَطِّم، بل يُرَبِّي. والله لا يَترك الإنسان في خطيئته، بل يُرافقُه حتى يعود إلى حِضْنِهِ

الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 04-10-2025