sykakerk.nl


الزواج في المسيحية بين الحقيقة والمفاهيم الخاطئة


المقدمة
في عالمٍ يزداد فيه الخلط بين المفاهيم وتُعاد صياغة القيم على أيدي الدراما والإعلام، يُصبح من الضروري أن نتأمل بصدق في معنى الزواج كما يقدّمه الإيمان المسيحي، لا كما تروّج له المسلسلات أو الأذواق المتغيّرة.
فالزواج في المسيحية ليس مجرد علاقة عاطفية عابرة، بل هو سرّ مقدس، طريق خلاص، ودعوة إلى المحبة على مثال محبة المسيح للكنيسة.
أولاً: الزواج كسرّ مقدس وشركة حياة
الكتاب المقدس يقدّم الزواج منذ بدء الخليقة كاتحادٍ مقدس أراده الله بنفسه: “يترك الرجل أباه وأمّه ويلتصق بامرأته، ويصيران جسداً واحداً” (تكوين 2. 24). وفي العهد الجديد، يرفع المسيح هذا الاتحاد إلى مرتبة السرّ، قائلًا: “فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان” (متى 19. 6).
هذا الاتحاد ليس مجرد توافق بشري، بل شركة حياة وحبّ تهدف إلى قداسة الزوجين ونموّهما في المحبة المتبادلة.
ويقول التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (الفقرة 1601):
“الزواج هو عهدٌ يتّحد بموجبه رجل وامرأة، برضاهما، لخيرهما الشخصي ولإنجاب البنين وتربيتهم. وقد رفعه المسيح الرب إلى كرامة السرّ بين المعمَّدين.”
الزواج إذاً ليس عقداً إجتماعياً مؤقتاً، بل عهد حبّ مقدس يعيش فيه الزوجان أمانة المسيح لكنيسته: محبة لا تعرف الأنانية، بل البذل، ولا تتوقف عند المشاعر، بل تمتد إلى قرار يومي بأن أكون أميناً للآخر كما كان الله أميناً لي.
ثانياً: خطر المفاهيم الخاطئة في الإعلام والمسلسلات
الدراما اليوم كثيراً ما تصوّر الزواج كمجرد علاقة قائمة على الانجذاب أو المصلحة، وتُظهر الانفصال والخيانة كأمور “عادية” أو حتى “مبرَّرة”.
بهذا الشكل، يتشرّب المشاهد ببطء مفاهيم تخالف روح الإنجيل، فيبدأ يظن أن الزواج الناجح هو الذي يُشبع رغباته فقط، لا الذي يجعله ينضج في المحبة والتضحية.
لكن الحقيقة التي يذكّرنا بها بولس الرسول هي أن المحبة الزوجية يجب أن تكون على مثال محبة المسيح المضحية: “أيها الرجال، أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها” (أفسس 5. 25).
المسيح لم يحب الكنيسة لأنها “مثالية”، بل أحبها ليجعلها مقدسة. كذلك، الزواج المسيحي لا يقوم على الكمال بل على الرحمة والغفران المستمر.
ويحذّر التعليم المسيحي (الفقرة 1646) من النظرة السطحية:
“المحبّة الزوجيّة تتطلّب أمانةً لا رجعة عنها. إنّها ثمرة عطيّة الذات التي يتبادلها الزوجان في سرّ الزواج.”
وبالتالي، فإنّ الصورة التي تروّج لها المسلسلات عن “تبديل الشركاء” أو “الحرية داخل العلاقة” هي تشويه خطير يفرغ الزواج من معناه العميق.
ثالثاً: الصراع بين المفهوم المسيحي والمجتمعي
في مجتمعات اليوم، أصبح الزواج يُفهم غالباً كصفقة أو تجربة، لا كعهد دائم.
حتى بين بعض المؤمنين، نرى من يظن أن الحب هو “شعور جميل” ينتهي حين تخفت العاطفة. لكن تعليم الكنيسة يذكّرنا أن الحب قرار إرادي نابع من القلب، لا مجرد إحساس.
يقول البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي فرح الحب:
“الحبّ الزوجي لا يُقاس بلحظات الانفعال، بل بقدرة الشريكين على الاستمرار في العطاء، وعلى الشفاء من الجراح، وعلى البدء من جديد كل يوم.”
هذا يعني أن الزواج هو مسيرة مستمرة في المحبة، فيها نتعلّم الصبر، الإصغاء، الغفران، والتواضع. فكل علاقة زوجية حقيقية تمرّ بآلام ونضوج، لكنها تصبح أجمل عندما يكون الله في مركزها.
رابعاً: كيف نحصّن أنفسنا من المفاهيم الخاطئة؟
التمييز والوعي:
علينا أن نفتح أعيننا لما نتلقّاه من الإعلام، ونسأل: هل هذه الصورة تعكس فكر المسيح أم فكر العالم؟
يقول الرسول بولس: “ولا تتشبَّهوا بهذا العالم، بل تغيّروا بتجديد أذهانكم، لتُمَيِّزوا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة” (رومة 12. 2).
التربية الإيمانية منذ الصغر:
العائلة المسيحية مدعوة لتنشئة أولادها على فهم الزواج كدعوة مقدسة، لا مجرد مرحلة من الحياة.
فالأسرة التي تُصلّي معاً وتعيش الغفران تُصبح حصناً ضد المفاهيم المغلوطة.
القدوة والنماذج:
من المهم أن يرى الشباب أزواجاً يعيشون أمانة عهدهم رغم الصعوبات، لأن الشهادة الصامتة أقوى من كل العظات.
هؤلاء الأزواج يُجسّدون قول بولس الرسول: “المحبّة تحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء. المحبة لا تسقط أبداً” (1كورنثوس 13. 7-8).
إعادة اكتشاف معنى العهد:
الزواج لا يقيّد الحرية، بل يوجّهها نحو محبة أعمق.
كما يقول التعليم المسيحي (الفقرة 1642):
“إن المسيح هو مصدر هذه النعمة. فهو يبقى مع الزوجين، ويعطيهما القوة ليحملا صليبهما، وليقوما من سقوطاتهما، وليغفرا لبعضهما، وليحملا أثقال أحدهما الآخر.”
الخاتمة
الزواج في المسيحية هو سرّ محبة، لا مسرح مشاعر مؤقتة. هو مكان لقاء بين الإنسان والله، وليس مجرّد تجربة بشرية قابلة للتبديل. وفي زمنٍ يُعاد فيه تعريف كل شيء، يبقى الزواج المسيحي شاهداً على أن الحب الحقيقي ما زال ممكناً — عندما يكون متجذراً في الإيمان، ومبنياً على العهد لا المزاج، وعلى الغفران لا الأنانية.
صرخة الكاتب:
كفانا صمتاً! حان الوقت لنُعلنها بجرأة: الزواج المسيحي ليس وهماً من الماضي، ولا حلماً رومانسيّاً عابراً، بل إعلان حضور الله الحيّ وسط قلبين يؤمنان أن الحبّ دعوة وقداسة ورسالة!
في عالمٍ يخلط بين الحرية والأنانية، نحن مدعوّون لنُظهر أن الحرية الحقيقية هي أن نُحب كما أحبّ المسيح، بلا شروط، بلا خوف، بلا نهاية!
فلنجعل من بيوتنا كنائس صغيرة تفيض نوراً وحقّاً، ولنشهد بأن الزواج المسيحي ما زال ممكناً، وما زال جميلاً، لأنه ثابت على صخرة المسيح، لا على رمال المشاعر العابرة.
لنصرخ مع بولس الرسول: “المحبّة هي رباط الكمال” (كولوسي ٣:١٤).
فليكن هذا الرباط صرختنا، رسالتنا، وعهدنا الجديد أمام العالم!

الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 11-10-2025
www.sykakerk.nl