المقدّمة
كل إنسان في حياته يمرّ بوقت ٍ يشعر فيه بأن الأرض تنهار تحت قدميه: مرضٌ لا يُحتمل، فقدان شخص ٍ عزيز، خيبة أمل، أو ظلم قاس ٍ. وفي تلك اللحظات، يعلو السؤال من أعماق القلب: أين أنت يا الله؟ لماذا تسمح بهذا الألم؟
ليس هذا السؤال علامة ضعف في الإيمان، بل هو جزء من مسيرة الإيمان نفسها. فالكتاب المقدس مليء بأناس ٍ صرخوا في وجه الله: من أيوب الذي قال: “٢٠لِمَ يُعْطى لِلشَّقِيِّ نور وحَياةٌ لِذَوي النُّفوسِ المُرَّة” (أيوب 3. 20)، إلى المزامير التي تفيض شكوى: “إِلٰهي إِلٰهي، لِماذا تَرَكتَني؟” (مزمور 22. 2).
الله لا يَرفض أسئلتنا، بل يدخل من خلالها إلى أعماقنا، ليحوّل الألم من لعنة إلى طريق نعمة.
الألم جزء من طريق الإيمان
كثيرون يظنون أن الإيمان الحقيقي يعني حياة خالية من المعاناة، لكن الواقع الروحي يقول العكس. فالإيمان يُختبر في النار. يسوع نفسه لم يُعفَ من الألم، بل سلك طريق الصليب حبّاً بنا. لذلك يقول لنا: “تُعانونَ الشِّدَّةَ في العالَم ولٰكِن ثِقوا إِنِّي قد غَلَبتُ العالَم” (يوحنا 16. 33).
الألم ليس دليل غياب الله، بل مساحةٌ يُختبر فيها حضوره العميق. فالقديس أغسطينوس يقول: «الله لا يسمح بالشر إلا ليُخرج منه خيراً أعظم.»
حين نعيش الألم بثقة، يتحوّل من تجربة تدمّرنا إلى نعمة تُنضجنا. فالإيمان لا يُلغِي الألم، لكنه يمنحه معنى.
الله لا يخلّص من بعيد
في يسوع المسيح، نرى الله الذي لم يبقَ في السماء بعيداً عن جراحنا، بل نزل إلينا وحملها على كتفيه. النبي إشعياء وصفه بأنه “رَجُلُ أَوجاعٍ وعارِفٌ بِالأَلم” (إشعيا 53. 3).
يسوع لم يأتِ ليُلغِي الألم، بل ليدخله معنا، وليحوّله من طريق موت إلى طريق قيامة. فعلى الصليب، بدا كأنه مهزوم، لكنه في الواقع كان يُحوّل الألم إلى حبٍّ يفدي العالم.
كل مرة نحمل فيها صليبنا بصمت ٍ وثقة، نشارك يسوع في عمل الفداء. يقول البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته «الألم الفدائي» إن الإنسان لا يفهم معنى الألم إلا حين يعي أنه يمكنه أن يشارك المسيح في خلاص الآخرين من خلال معاناته.
الألم كصوت يدعونا للمعنى
في حياتنا اليومية، كثيراً ما نهرب من الألم، نغلق الأبواب عليه، ونحاول أن ننساه. لكن أحياناً، يكون الألم صوت الله الذي يوقظنا من غفلتنا.
الفيلسوف سي. إس. لويس كتب: «يهمس الله لنا في مسراتنا، و يتحدث إلينا في ضميرنا، و لكنه يصرخ في آلامنا.»
ربما من خلال مرض ٍ، أو فشلٍ، أو خيبةٍ، يدعونا الله لنراجع أولوياتنا، لنكتشف ما هو ثابت وسط الزائل.
وفيكتور فرانكل، الطبيب الذي عاش معاناة معسكرات الاعتقال، قال: «أن من لا يرى معنى في حياته يشعر بالضياع، بينما من يمتلك هدفاً يستطيع تحمل أي شيء. »
الألم، إذاً، يمكن أن يكون مكان ولادة معنى جديد، إن عِشنا معه لا ضده.
الله يمشي معنا في وادي الظلال
الإيمان لا يقدّم لنا حلولاً سحرية، بل رفقة إلهية. الله لا يزيل الأتون، لكنه يدخل فيه معنا كما فعل مع الفتية الثلاثة في بابل (راجع سفر دانيال 3).
حين نشعر بالوحدة أو الانكسار، يمكننا أن نصلي مع صاحب المزمور: “إِنِّي ولَو سِرتُ في وادي الظُّلُمات لا أَخافُ سُوءًا لأَنَّكَ مَعي.” (مزمور 23. 4).
كم من إنسان اكتشف وسط الألم وجه الله الحقيقي، وجه الرحمة والحنان! فالله لا يصمت إلى الأبد، بل يتكلّم بلغة الحضور: حضور كلمةٍ تواسي، أو صديقٍ يحتضن، أو سلام ٍ يملأ القلب رغم كل شيء.
الألم طريق القيامة
في المنطق البشري، الألم هو النهاية؛ أما في منطق الله، فهو بداية جديدة.
كل ألم نحمله بالإيمان يصبح بذرة رجاء. يسوع نفسه لم ينتهِ على الصليب، بل قام منتصراً على الموت، فاتحاً لنا طريق القيامة.
بولس الرسول عاش هذه الحقيقة حين قال: “وإِنَّ الشِّدَّةَ الخَفيفةَ العابِرَةَ تُعِدُّ لَنا قَدْراً فائِقاً أَبَدِيّاً مِنَ المَجْد،” (2 كورنتس 4. 17).
القيامة لا تعني زوال الجراح، بل تحوّلها إلى علامات حبٍّ خالد. فكما بقيت جراح المسيح في جسده القائم، تبقى جراحنا أيضاً شاهدةً على محبته العاملة فينا.
الخاتمة
السؤال «أين الله وسط الألم؟» لا يُجاب عنه بالكلمات، بل بالخبرة. فكل من فتح قلبه لله وسط الألم، وجد أنه لم يكن وحيداً قط.
الله لا يَعِدنا بحياة بلا دموع، لكنه يَعِدنا بأنه:”سيَمسَحُ كُلَّ دَمعَة ٍ مِن عُيونِهم” (رؤيا 21. 4).
حين نعيش الألم بإيمان، لا ننجو منه فقط، بل نتحوّل من خلاله. نصبح أكثر إنسانية، أكثر محبة، وأكثر شبهاً بالمسيح الذي أحب حتى النهاية.
فالألم، حين يُعاش في ضوء الصليب والقيامة، لا يعود لعنة، بل نعمة تفتح القلب على الله وعلى الآخرين.
ويتحول من الصرخة إلى اللقاء.
الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 18-10-202