في كلّ عصرٍ، يتساءل الإنسان عن سرّ الشرّ الذي يملأ الأرض: من أين يأتي؟ ومن هم فاعلوه؟ هل هو قوّة خفيّة تسكن في الظلام، أم أنّه يتجسّد في أشخاص ٍ من لحم ٍ ودم ٍ يمشون بيننا؟
الكتاب المقدّس يجيب بوضوح أنّ الشيطان ليس فقط روحاً متمرّداً، بل هو أيضاً روح يعمل في الذين يرفضون النور، ويحوّل الإنسان إلى أداةٍ للظلمة إن ترك قلبه بلا نعمة.
يقول الرسول بولس: “فإنّ مصارعتنا ليست مع لحم ٍ ودم، بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحية في السماويات” (أفسس 6. 12).
هنا لا يكتفي بولس بوصف قوى غير مرئية، بل يكشف أنّ الشرّ يتغلغل في البُنى والعقول، في الأنظمة والمواقف، حين يُقصى الله عن مركز الحياة. فـ”شياطين هذا العالم” هم كلّ من جعل من ذاته أداةً للشيطان من خلال اختياره الحرّ، حين سمح للكره والكبرياء أن يحكما قلبه.
أولا: الإنسان الذي يجسّد الشيطان
الشيطان لا يحتاج دائماً إلى أجنحة سوداء ولا إلى نارٍ ولهيب، لأنّه يجد في الإنسان المتكبّر والعنيف والكاذب وجهاً مناسباً له.
فالذي يزرع الكراهية باسم الحقيقة، والذي يدمّر الآخر باسم الدين أو المصلحة، هو في العمق يجسّد عمل إبليس، لأنّه يفصل الإنسان عن الإنسان، وبهذا يفصل الإنسان عن الله.
يقول يسوع بوضوح: “أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتّالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحقّ، لأنّه ليس فيه حقّ» (يوحنا 8. 44).
بهذه الكلمات، يعلن المسيح أن الشرّ ليس مجرّد خطأ أخلاقي، بل هو اشتراك في طبيعة إبليس الكاذبة والقاتلة. فكلّ من يعيش على حساب الآخر، ويُفرح قلبه بدموع الضعفاء، إنّما صار “شيطاناً على الأرض”.
ثانياً: شياطين اليوم: حين يتجسّد الشرّ في الواقع
في واقعنا الاجتماعي، لا نحتاج إلى البحث طويلاً عن مظاهر الشرّ، فهي واضحة في كلّ مكان:
-في الظالم الذي يسحق حقوق الناس ويبرّر نفسه باسم القانون.
-في الفاسد الذي يسرق قوت الفقراء ببرودٍ ويعتبرها “ذكاء”.
-في الذي يستخدم الدين ليحكم الناس بدل أن يخدمهم.
-في الذي يدمّر سمعة إنسانٍ بكلمةٍ أو إشاعةٍ دون ندم.
هؤلاء جميعاً هم وجوه معاصرة للشيطان، لأنّهم يُظهرون الشرّ كأنه أمر عادي، ويُطفئون في القلوب الإحساس بالحقّ.
إنّ أسوأ ما يفعله “شياطين العالم” هو أنهم يجعلون الخطيئة تبدو مقبولة، والأنانية فضيلة، والحقد حقّاً مشروعاً.
ثالثاً. شياطين الحروب والقوة
أسوأ الشياطين ليسوا أولئك الذين نرسمهم بقرونٍ في الخيال، بل الذين يلبسون بدلات رسمية ويتحدّثون بلغة السياسة والاقتصاد، بينما قراراتهم تزرع الموت في الشعوب.
هؤلاء هم شياطين الحروب الذين يصنعون الأسلحة بدل أن يبنوا السلام، الذين يحوّلون الإنسان إلى رقم، والدم إلى تجارة.
هم الذين يسحقون الضعفاء ليُثبّتوا عروشهم، ويبرّرون الجرائم باسم “المصلحة العامة” أو “الهيبة الوطنية”.
إنهم يعبدون المال والسلطة بدل الله، ويستبدلون الرحمة بالبرود، والحقيقة بالدعاية.
في هؤلاء تتجسّد كلمات بولس الرسول: «إله هذا الدهر أعمى أذهان غير المؤمنين لئلاّ تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح» (2 كورنثوس 4:4).
رابعاً: لاهوت القلب: حيث تبدأ المعركة
الشرّ يبدأ من الداخل، من القلب الذي لم يعد يصغي إلى الله.
فالشيطان لا يستطيع أن يسكن في الإنسان إلا إذا فُتح له الباب.
قال القدّيس يوحنّا الذهبي الفم: “ليس الشيطان من يُسقطنا، بل عدم سهرنا نحن. فالذي يحمل في قلبه نور المسيح، لا يدخل إليه الظلام.”
لهذا السبب، المعركة الحقيقية ليست مع الآخرين، بل مع الذات. فحين نسمح للغضب أو الحسد أو الكبرياء أن تسيطر علينا، نحن نمنح الشرّ جسداً وصوتاً.
إنّ مواجهة شياطين العالم تبدأ من توبة القلب، من رغبة صادقة في أن نكون أبناء النور لا أبناء الظلمة.
خامساً: النور أقوى من الظلام
رغم كلّ ما يفعله الشرّ، يبقى النور هو الكلمة الأخيرة.
المسيح لم يأتِ ليُدين العالم، بل ليُحرّره من روح الشرّ.
حين يغفر الإنسان، يكسر حلقة الشيطان.
وحين يختار المحبة بدل الانتقام، يعلن انتصار الله وسط العالم المظلم.
“والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه” (يوحنا 1. 5).
فحتى إن امتلأ العالم بشياطينه، يبقى في كلّ إنسان مؤمنٍ قدرة على أن يكون شمعةً لا تنطفئ.
الشيطان لا يُهزم بالعنف، بل بالمحبة الصادقة والحقّ المتجسّد في الحياة اليومية.
خاتمة
“شياطين هذا العالم” هم أولئك الذين فقدوا الإحساس بقدسية الإنسان، فصاروا يعاملون الآخر كأداة أو عدوّ.
لكنّ المسيحي مدعوّ أن يكون نقيضهم، أي مرآة الله في عالم ٍ يعكس وجه الشيطان.
أن يعيش المحبة بدل الكراهية، الرحمة بدل الدينونة، والصدق بدل الزيف.
حينها فقط، يُصبح العالم أقل ظلاماً، لأنّ نور الله لا يختفي، بل ينتقل من قلبٍ إلى قلب.
الخوراسقف: سعدي خضر/هولندا
السبت 15-11-2025